سورة الأحقاف - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحقاف)


        


المعنى قال لهم هود: إن هذا الوعيد ليس من قبلي، وإنما الأمر إلى الله وعلم وقته عنده، وإنما عليَّ أن أبلغ فقط.
وقرأ جمهور الناس: {وأبَلّغكم} بفتح الباء وشد اللام. قال أبو حاتم: وقرأ أبو عمرو في كل القرآن بسكون الباء وتخفيف اللام.
و: {أراكم تجهلون} أي مثل هذا من أمر الله تعالى وتجهلون خلق أنفسكم. والضمير في: {رأوه} يحتمل أن يعود على العذاب، ويحتمل أن يعود على الشيء المرئي الطارئ عليهم، وهو الذي فسره قوله: {عارضاً}، والعارض ما يعرض في الجو من السحاب الممطر، ومنه قول الأعشى:
يا من رأى عارضاً قد بتُّ أرمقه *** كأنما البرق في حافاته الشعل
وقال ابو عبيدة: العارض الذي في أقطار السماء عشياً ثم يصبح من الغد قد استوى. وروي في معنى قوله: {مستقبل أوديتهم} أن هؤلاء القوم كانوا قد قحطوا مدة فطلع هذا العارض على الهيئة والجهة التي يمطرون بها أبداً، جاءهم من قبل واد لهم يسمونه المغيث. قال ابن عباس: ففرحوا به و{قالوا هذا عارض ممطرنا}، وقد كذب هود فيما أوعد به، فقال لهم هود عليه السلام: ليس الأمر كما رأيتم، {بل هو ما استعجلتم به} في قولكم: {فأتنا بما تعدنا} [الأحقاف: 22] ثم قال: {ريح فيها عذاب أليم}.
وفي قراءة ابن مسعود: {قال هود بل هو} بإظهار المقدر، لأن قراءة الجمهور هي كقوله تعالى {يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم} [الرعد: 23] أي يقولون سلام. قال الزجاج وقرأ قوم: {ما استُعجِلتم} بضم التاء الأولى وكسر الجيم. و: {ريح} بدل من المبتدأ في قوله: {هو ما}. و: {ممطرنا} هو نعت ل {عارض} وهو نكرة إضافته غير محضة، لأن التقدير ممطر لنا في المستقبل، فهو في حكم الانفصال.
وقد مضى في غير هذه السورة قصص الريح التي هبت عليهم، وأنها كانت تحمل الظعينة كجرادة. و: {تدمر} معناه: تهلك. والدمار: الهلاك، ومنه قول جرير: [الوافر]
وكان لهم كبكر ثمود لمّا *** رغا دهراً فدمرهم دمارا
وقوله: {كل شيء} ظاهره العموم ومعناه الخصوص في كل ما أمرت بتدميره، وروي أن هذه الريح رمتهم أجمعين في البحر.
وقرأ جمهور القراء: {لا ترى} أيها المخاطب. وقرأ عاصم وحمزة: {لا يُرى} بالياء على بناء الفعل للمفعول {مساكنُهم} رفعاً. التقدير: لا يرى شيء منهم، وهذه قراءة ابن مسعود وعمرو بن ميمون والحسن بخلاف عنه، ومجاهد وعيسى وطلحة. وقرأ الحسن بن أبي الحسن والجحدري وقتادة وعمرو بن ميمون والأعمش وابن أبي إسحاق وأبو رجاء ومالك بن دينار بغير خلاف عنهما خاصة ممن ذكر: {لا تُرى} بالتاء منقوطة من فوق مضمومة {مساكُنهم} رفعاً، ورويت عن ابن عامر، وهذا نحو قول ذي الرمة: [البسيط]
كأنه جمل وهم وما بقيت *** إلا النجيزة والألواح والعصب
ونحو قوله: [الطويل]
فما بقيت إلا الضلوع الجراشع ***
وفي هذه القراءة استكراه. وقرأ الأعمش وعيسى الهمداني: {إلا مسكنهم}على الإفراد الذي هو اسم الجنس، والجمهور على الجمع في اللفظة، ووجه الإفراد تصغير الشأن وتقريبه كما قال تعالى: {ثم يخرجكم طفلاً} [غافر: 67].
ثم خاطب تعالى قريشاً على جهة الموعظة بقوله: {ولقد مكناهم في ما إن مكناهم فيه} ف {ما}، بمعنى الذي، و{إن} نافية وقعت مكان {ما} ليختلف اللفظ، ولا تتصل {ما} ب {ما}، لأن الكلام كأنه قال: في الذي ما مكناكم فيه. ومعنى الآية: ولقد أعطيناهم من القوة والغنى والبسط في الأموال والأجسام ما لم نعطكم، ونالهم بسبب كفرهم هذا العذاب، فأنتم أحرى بذلك إذا كفرتم. وقالت فرقة: {إن} شرطية، والجواب محذوف تقديره: في الذي إن مكناكم فيه طغيتم، وهذا تنطع في التأويل.
ثم عدد تعالى عليهم نعم الحواس والإدراك، وأخبر أنها لم تغن حين لم تستعمل على ما يجب. وما: نافية في قوله: {فما أغنى عنهم} ويقوي ذلك دخول {من} في قوله: {من شيء}.
وقالت فرقة: ما في قوله: {فما أغنى عنهم} استفهام بمعنى التقرير، و{من شيء} على هذا تأكيد، وهذا على غير مذهب سيبويه في دخول من في الواجب. {وحاق} معناه: وجب ولزم، وهو مستعمل في المكاره، والمعنى جزاء {ما كانوا به يستهزئون}.


وقوله: {ولقد أهلكنا ما حولكم} مخاطبة لقريش على جهة التمثيل لهم بمأرب وسدوم وحجر ثمود. وقوله: {وصرفنا الآيات} يعني لهذه القرى المهلكة.
وقوله: {فلولا نصرهم} الآية يعني هلا نصرتهم أصنامهم التي اتخذوها. و: {قرباناً} إما أن يكون المفعول الثاني ب {اتخذوا} و: {آلهة} بدل منه، وإما أن يكون حالاً. و: {آلهة} المفعول الثاني، والمفعول الأول هو الضمير العائد على: {الذين} التقدير: اتخذوهم. وقوله تعالى: {بل ضلوا عنهم} معناه: انتلفوا لهم حتى لم يجدوهم في وقت حاجة.
وقوله: {وذلك} الإشارة به تختلف بحسب اختلاف القراءات في قوله: {إفكهم} فقرأ جمهور القراء {إفْكُهم} بكسر الهمزة وسكون الفاء وضم الكاف، فالإشارة ب {ذلك} على هذه القراءة إلى قولهم في الأصنام إنها آلهة، وذلك هو اتخاذهم إياها، وكذلك هي الإشارة في قراءة من قرأ: {أفَكهم} بفتح الهمزة، وهي لغة في الإفك، وهما بمعنى الكذب، وكذلك هي الإشارة في قراءة من قرأ: {أفَكهم} بفتح الهمزة: والفاء على الفعل الماضي، بمعنى صرفهم، وهي قراءة ابن عباس وأبي عياض وعكرمة وحنظلة بن النعمان. وقرأ أبو عياض أيضاً وعكرمة فيما حتى الثعلبي: {أفّكَهم} بشد الفاء وفتح الهمزة والكاف، وذلك على تعدية الفعل بالتضعيف. وقرأ عبد الله بن الزبير: {آفَكَهم} بالمد وفتح الفاء والكاف على التعدية بالهمزة. قال الزجاج: معناه جعلهم يأفكون كما يقال أكفرهم. وقرأ ابن عباس فيما روى قطرب: {آفِكُهم} بفتح الهمزة والمد وكسر الفاء وضم الكاف على وزن فاعل، بمعنى: صارفهم.
وحكى الفراء أنه يقرأ: {أفَكُهم} بفتح الهمزة والفاء وضم الكاف، وهي لغة في الإفك، والإشارة ب {ذلك} على هذه القراءة التي ليست مصدراً يحتمل أن تكون إلى الأصنام. وقوله: {وما كانوا يفترون}، ويحتمل أن تكون {ما} مصدرية فلا يحتاج إلى عائد، ويحتمل أن تكون بمعنى الذي، فهناك عائد محذوف تقديره: يفترونه.
وقوله تعالى: {وإذا صرفنا إليك نفراً من الجن} ابتداء قصة الجن ووفادتهم على النبي صلى الله عليه وسلم. و: {صرفنا} معناه: رددناهم عن حال ما، يحتمل أنها الاستماع في السماء، ويحتمل أن يكون كفرهم قبل الوفادة وهذا بحسب الاختلاف هنا هل هم الوفد أو المتجسسون، وروي أن الجن كانت قبل مبعث النبي عليه السلام تسترق السمع من السماء، فلما بعث محمد عليه السلام حرست بالشهب الراجمة، فضاقت الجن ذرعاً بذلك، فاجتمعت وأتى رأي ملئهم على الافتراق في أقطار الأرض وطلب السبب الموجب لهذا الرجم والمنع من استراق السمع ففعلوا ذلك. واختلف الرواة بعد فقالت فرقة: جاءت طائفة من الجن إلى النبي عليه السلام وهو لا يشعر، فسمعوا القرآن وولوا إلى قومهم منذرين، ولم يعرف النبي بشيء من ذلك حتى عرفه الله بذلك كله، وكان سماعهم لقرآنه وهو بنخلة عند سوق عكاظ، وهو يقرأ في صلاة الفجر.
وقالت فرقة: بل أشعره الله بوفادة الجن عليه واستعد لذلك، ووفد عليه أهل نصيبين منهم.
قال القاضي أبو محمد: والتحرير في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جن دون أن يعرف بهم، وهم المتفرقون من أجل الرجم، وهذا هو قوله تعالى: {قل أوحي إلي} [الجن: 1] ثم بعد ذلك وفد عليه وفد، وهو المذكور صرفه في هذه الآية. قال قتادة: صرفوا إليه من نينوى، أشعر به قبل وروده. وقال الحسن: لم يشعر.
واختلف في عددهم اختلافاً متباعداً فاختصرته لعدم الصحة في ذلك، أما أن ابن عباس رضي الله عنه قال: كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين وقال زر كانوا تسعة: فيهم زوبعة، وروي في ذلك أحاديث عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني خارج إلى وفد الجن، فمن شاء يتبعني»، فسكت أصحابه، فقالها ثانية، فسكتوا، فقال عبد الله أنا أتبعك، قال فخرجت معه حتى جاء شعب الحجون، فأدار لي دائرة وقال لي: لا تخرج منها، ثم ذهب عني، فسمعت لغطاً ودوياً كدوي النسور الكاسرة. ثم في آخر الليل جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قرأ عليهم القرآن وعلمهم وأعطاهم زاداً في كل عظم وروثة، فقال: يا عبد الله، ما رأيت؟ فأخبرته، فقال: لقد كنت أخشى أن تخرج فيتخطفك بعضهم، قلت يا رسول الله، سمعت لهم لغطاً، فقال: إنهم تدارأوا في قتيل لهم، فحكمت بالحق. واضطربت الروايات عن عبد الله بن مسعود، وروي عنه ما ذكرنا. وذكر عنه أنه رأى رجالاً من الجن وبهم شبه رجال الزط السود الطوال حين رآهم بالكوفة. وروي عنه أنه قال: ما شاهد أحد منا ليلة الجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاختصرت هذه الروايات وتطويلها لعدم صحتها.
وقوله: {نفراً} يقتضي أن المصروفين رجالاً لا أنثى فيهم، والنفر والرهط: القوم الذين لا أنثى فيهم.
وقوله تعالى: {فلما حضروه قالوا أنصتوا} فيه تأدب مع العلم وتعليم كيف يتعلم وقرأ جمهور الناس: {قُضِي} على بناء الفعل للمفعول.. وقرأ حبيب بن عبد الله بن الزبير وأبو مجلز: {قضى} على بناء الفعل للفاعل، أي قضى محمد القراءة.
وقال ابن عمر وجابر بن عبد الله: قرأ عليهم سورة [الرحمن] فكان إذا قال: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} [الرحمن: 13] قالوا: لا بشيء من آلائك نكذب، ربنا لك الحمد، ولما ولت هذه الجملة تفرقت على البلاد منذرة للجن. قال قتادة: ما أسرع ما عقل القوم.
قال القاضي أبو محمد: فهنالك وقعت قصة سواد وشصار وخنافر وأشباههم صلى الله على محمد عبده ورسوله.


المعنى: قال هؤلاء المنذرون لما بلغوا قومهم {يا قومنا إنا سمعنا كتاباً} وهو القرآن العظيم، وخصصوا {موسى} عليه السلام لأحد أمرين: إما لأن هذه الطائفة كانت تدين بدين اليهود، وإما لأنهم كانوا يعرفون أن موسى قد ذكر محمداً وبشر به، فأشاروا إلى موسى من حيث كان هذا الأمر مذكوراً في توراته. قال ابن عباس في كتاب الثعلبي: لم يكونوا علموا أمر عيسى عليه السلام، فلذلك قالوا {من بعد موسى}. وقولهم: {مصدقاً لما بين يديه} يؤيد هذا. و: {ما بين يديه} هي التوراة والإنجيل. و{الحق} والطريق المستقيم هنا بمعنى يتقارب لكن من حيث اختلف اللفظ، وربما كان {الحق} أعم، وكأن أحدهما قد يقع في مواضع لا يقع فيها الآخر حسن التكرار. و: {داعي الله} هو محمد عليه السلام، والضمير في: {به} عائد على الله تعالى.
وقوله: {يغفر} معناه: يغفر الله. {ويجركم} معناه: يمنعكم ويجعل دونكم جوار حفظه حتى لا ينالكم عذاب.
وقوله تعالى: {ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز} الآية، يحتمل أن يكون من كلام المنذرين، ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى لمحمد عليه السلام، والمراد بها إسماع الكفار وتعلق اللفظ إلى هذا المعنى من قول الجن: {أجيبوا داعي الله} فلما حكى ذلك قيل ومن لا يفعل هذا فهو بحال كذا، والمعجز الذاهب في الأرض الذي يبدي عجز طالبه ولا يقدر عليه، وروي عن ابن عامر: {وليس لهم من دونه} بزيادة ميم.
وقوله تعالى: {أو لم يروا} الضمير لقريش، وهذه آية مثل واحتجاج، لأنهم قالوا إن الأجساد لا يمكن أن تبعث ولا تعاد، وهم مع ذلك معترفون بأن الله تعالى خلق السماوات والأرض فأقيمت عليهم الحجة من أقوالهم. والرؤية في قوله: {أو لم يروا} رؤية القلب.
وقرأ جمهور الناس: {ولم يعْيَ} بسكون العين وفتح الياء الأخيرة. وقرأ الحسن بن أبي الحسن {يعِ} بكسر العين وسكون الياء وذلك على حذف.
والباء في قوله: {بقادر} زائدة مؤكدة، ومن حيث تقدم نفي في صدر الكلام حسن التأكيد بالباء وإن لم يكن المنفي ما دخلت على عليه كما هي في قولك: ما زيد بقائم كان بدل {أو لم يروا} أوليس الذي خلق.
وقرأ ابن عباس وجمهور الناس: {بقادر} وقرأ الجحدري والأعرج وعيسى وعمرو بن عبيد: {يقدر} بالياء على فعل مستقبل، ورجحها أبو حاتم وغلط قراءة الجمهور لقلق الباء عنده. وفي مصحف عبد الله بن مسعود {بخلقهن قادر}.
و: {بلى} جواب بعد النفي المتقدم، فهي إيجاب لما نفي، والمعنى: بلى رأوا ذلك أن لو نفعهم ووقع في قلوبهم، ثم استأنف اللفظ الإخبار المؤكد بقوله: {إنه على كل شيء قدير}.

1 | 2 | 3 | 4